16 سنة بلا انتخابات وبلا معارضة. سلطة مركزية تحكم بالقوة. غال بيرغر يتعمق في شخصية محمود عباس وبالأحداث التي جعلته ما هو اليوم.
غال بيرغر
مرت 16 سنة على أبو مازن في الحكم في رام الله، بلا انتخابات، شهدنا خلالها طحنا منهجيا للديمقراطية الفلسطينية. صحيح انه يبث الإشارات في الشهور الأخيرة بأنه يتجه نحو انتخابات جديدة، تشمل الانتخابات على الرئاسة، إلا انه لا يوجد ضمان لدى أحد بان هذا سيحدث فعلا. ربما يكون هذا هو الوقت المناسب حتى نسأل، كيف تحول هذا الرجل، الذي كان ينظر اليه في بداية طريقه أملا كبيرا للغرب باعتباره ديمقراطيا لبراليا، وصار حاكما متسلطا يركز بيديه كل الصلاحيات ويتعامل بقبضة حديدية مع خصومه السياسيين ويكم أفواه كل المعارضين له من البيت. غال بيرغر يتعمق في شخصية محمود عباس وبالأحداث التي جعلته ما هو اليوم.
محمود عباس، أبو مازن، هو القائد الثاني للحركة القومية الفلسطينية، منذ نهاية الستينيات. سبقه ياسر عرفات، الذي توفي في نهاية 2004، وبعد شهرين من الوفاة انتخب أبو مازن في انتخابات عامة جرت في كانون الثاني 2005 ليخلف عرفات في رئاسة السلطة الفلسطينية. على الورق انتخب لأربع سنوات. لكن، في الواقع، منذ ذلك الوقت لم تجر انتخابات أخرى وهو قابع على الكرسي حتى اليوم.
عندما انتخب، وحتى قبل ذلك بقليل، حظي بدعم الغرب. رأوا فيه انسانا ديمقراطيا وأملا في التغيير وقائدا يستطيع ان يقود الشعب الفلسطيني إلى ثاني دولة ديمقراطية في الشرق الأوسط. ولم يخيب الأمل بداية، إذ انه اتجه الى انتخابات للمجلس التشريعي الفلسطيني بعد سنة. ولكن، من بعدها، ومع مرور الزمن بدأ يتضح ن أبو مازن هو ليس بالضبط الديمقراطي الذي علقوا به الأمل. فقد أخذ يركز بين يديه المزيد والمزيد من الصلاحيات، وشيئا فشيئا سيطر على جميع سلطات الحكم، ليس التنفيذية فقط بل التشريعية ثم بعدئذ القضائية. إنه الحاكم الفعلي الذي يتحكم في كل شيء. ويوقع بقلمه على جميع التعيينات في مواقع القيادة الرسمية، من صغيرها حتى كبيرها.
إنه يصد أي نوع من النقد ويكابد ضد الخصوم من الداخل والخارج. ويعني هذا أنه لا يوجد مكان للمعارضة عند أبو مازن ولا مجال لتحدي سلطته القيادية. ومن سيتأزر بقليل من الشجاعة ويقدم على ذلك سيجد نفسه خارج الملعب السياسي وربما في السجن أيضا.
فما الذي جرى لأبو مازن، على الطريق؟
أجل، هذا هو السؤال: ما الذي جرى لأبو مازن، على الطريق؟ كيف تحول من قائد ديمقراطي يشيد به الجميع في بداية الطريق؟ كيف تغير؟ هل كان قد خدع الجميع؟ أم ان الظروف هي التي قادته الى هذا المكان؟ ثلاثة أحداث مركزية أدت بلا شك بلورة شخصيته القيادية والتغيير فيه:
1. انتصار حماس في المجلس التشريعي في كانون الثاني 2006
لقد وقع الحدث الأول، الذي يمكن اعتباره ذا شأن في مسيرته القيادية في كانون الثاني سنة 2006، بعد سنة من انتخابه رئيسا. أبو مازن كان بنفسه الذي بادر إلى إجراء الانتخابات التشريعية، وبذلك بث رسالة إلى العالم أنه رجل ديمقراطي. لكن، على عكس توقعاته، لم تكن النتائج لصالحه. فقد خرجت حركة حماس منتصرة فيها، وهي الخصم السياسي اللدود لحركة فتح التي يقودها.
حركة فتح بقيادة أبو مازن، لم تحترم ابدا هذا الانتصار. دارت حرب شوارع دامية بين المسلحين من الطرفين، في شوارع غزة بالأساس، جراء هذا الانتصار المؤلم، حتى أقدم هذا الخصم الإسلامي العنيد، حماس، في صيف 2007 على إجراء زلزل السلطة الفلسطينية لسنين طويلة، ولا تزال تبعاته مستمرة حتى يومنا هذا.
2. سيطرة حماس على غزة بالقوة
لقد سيطرت حماس على قطاع غزة بالقوة وسلخته بكل ما تعنيه الكلمة عن السلطة الفلسطينية. هذا هو الحديث الثاني الذي بلور الشخصية القيادية لأبي مازن. كان لك في الرابع عشر من حزيران 2007، الذي يسمى يوم الخميس الأسود. ثلث مساحة دولة فلسطين العتيدة، التي خطط أبو مازن لإقامتها، طار من بين يديه. وحصل ذلك هو غير جاهز لذلك. وبدى عليه الذهول التام. وقد فهم جراء ذلك أنه في حال عدم التحرك كما يجب ويفرض سيطرته، فإن ما حصل في غزة سيحصل له تحت أنفه، في الضفة الغربية. فتسيطر حماس هناك أيضا وفي هذه الحالة يمكن ان يفقد راسه.
سيطرة حماس في غزة، مهدت الطريق أمام أبو مازن ليحدث الانعطاف الكبير لديه. فأصبح حكمه منذ تلك اللحظة، في صيف 2007، عصبيا جدا، في حالة استنفار دائم، ويعيش في ظل الشعور الدائم بالتهديد. ولم يعد هذا النظام صبورا قيد انملة، امام من تجرأ على تحديه وتهديد كرسيه في المقاطعة في رام الله.
في صيف 2009، جرت انتخابات محلية داخل حركة فتح، وسادت أجواء من التوتر العصبي. أجهزة أبو مازن الأمنية، التي رات أن مهمتها الأساسية هي توفير الحماية للعرش واستمرار حكم القائد، كانت تتصرف مثل الرفاص وتتأهب للانقضاض على اية رائحة خطر. طيلة 16 عاما من حكم أبو مازن، تعمل اجهزته هذه بشكل منهجي لتنظيف الساحة له وتوفير حلقة دفاع خالصة عنه تقطع صلاته بما هو خارجها. كل من يحاول رفع رأسه أو يكتب شيئا ضده يدخلون به بكل قوتهم، من دون أن يفكروا مرتين. استخدموا الاعتقالات أيضا، وقاموا بتفريق مظاهرات وأخرسوا كل من انتقد أبو مازن، حتى في الشبكات الاجتماعية.
يكفي المواطن الفلسطيني اليوم ان يكتب منشورا في فيس بوك ضد أبو مازن، وفي غضون ساعات قليلة يتم استدعاؤه الى التحقيق وهناك من اعتقلوا جراء ذلك. ممنوع شتمه وممنوع انتقاده ولا يوجد في هذا حد أدني من التسامح. إذا اقتربت مظاهرة من المقاطعة، مثلا، يلجمونها فورا. وإذا لم يتفرق المتظاهرون من خاطرهم، فلن يترددوا في استخدام القوة لتفريقها بأقصى السرعة. المظاهرات كما نعرفها في شارع بلفور وغيرها، لا يمكن ان تمر هناك بهدوء.
3. الربيع العربي من سنة 2011
الحدث الثالث الذي بلور شخصية أبو مازن القيادية هو الربيع العربي الذي بدا سنة 2011، بعد أربع سنوات فقط منن سيطرة حماس على قطاع غزة. كانت تلك فترة تميزت بسقوط عدد من الحكام العرب، الذين حكموا شعوبهم بتسلط فردي مستقر طيلة عشرات السنين، تم انزالهم عن منصة التاريخ إثر الانتفاضات الشعبية. لقد شاهد أبو مازن هذا كله ودخل في حالة ضغط. وفي سبيل التظاهر بان كل شيء عنده تمام، وأن غالبية الشعب تريده هو بالذات قائدا يواصل حكمهم، راح يتنقل في استوديوهات التلفزيون ويصرح، ويعيد ويكرر أنه إذا خرج ضدي متظاهر واحد ضده، فإنه سوف يغادر الحكم ولا يبقى فيه للحظة.
لكن، شاء الحظ ـن تجري مظاهرات أيضا عند أبو مازن في رام الله، عاصمة الحكم. لم تكن جماهيرية، بل اقتصرت على بضع مئات، أو الوف، وبثت له رسالة مفادها ان هناك عددا غير قليل من الفلسطينيين يريدون له أن يرحل، كما في ميدان التحرير في القاهرة، وكانت هذه انعكاس للربيع العربي. وقد تم تفريق هذه المظاهرات بسرعة، ولم يعد أبو مازن إلى تكرار تصريحاته بانه سيستقيل في حال تظاهروا ضده. وأظهرت استطلاعات الرأي أن ثلثي المواطنين يدعونه بشكل ثابت إلى تسليم المفاتيح والذهاب الى البيت. لكنه لم نصع ولم يفكر في إخلاء عرشه.
محمد دحلان خطر على حكم أبو مازن
ليس فقط سيطرة حماس ومظاهرات الربيع العربي ضد أبو مازن اقلقته، وجعلته الحاكم المستبد، بل أيضا هناك شيء آخر، بل قل هناك شخص آخر يجعله واقفا متأهبا وكنا قد ذكرناه بشكل عابر في الماضي بكلمة ونصف. الخصم الداخلي اذي يهدده، من داخل فتح، والذي يعتبره أبو مازن تهديدا فوريا لسلطته، تهديدا من داخل بيته الفتحاوي، يدعى محمد دحلان.
لقد كان دحلان جزءا من قيادة السلطة الفلسطينية منذ سنوات التسعين، كقائد لأحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وكان شريكا في المفاوضات مع إسرائيل. وكان من الشخصيات القوية المحيطة بياسر عرفات. وكان مؤيدا لأن يرث أبو مازن عرفات. إلا أن دحلان كان شخصية طموحة جدا مع شغف وأحلام كبيرة ولم يخش من مواجهة أبو مازن، عند الضرورة. وفي وقت ما دخل بين الرجلين “قط أسود”. بدأ ذلك عندما انتقد دحلان أسلوب أبو مازن وبعض قراراته. وقد تبادلا التهم عن المسؤولية حول سقوط قطاع غزة. وبلغ الخلاف الأوج عندما وصلت الى أبو مازن تقارير واشاعات تقول إن دلان يعد لانقلاب ضده.
لكن ما جعل دحلان بمثابة بطاقة حمراء لدى أبو مازن هو شريط مسجل وصل الى أبو مازن وفيه يسمع دحلان وهو يشتم ويسيء لسمعة ولدي أبو مازن، طارق وياسر. هنا لم يكن أبو مازن مستعدا للسكوت وجوابه كان قاطعا وعنيفا جدا. فقد ارسل رجال شرطة على بيت دحلان في رام الله وهدد باعتقاله. وقد كان من حظ دحلان انه اشتم رائحة الخطر في الوقت المناسب فغادر إلى أبو ظبي، حيث ينفي نفسه مذ عقد من الزمن.
مرض الملاحقة عند أبو مازن
لم يكتف أبو مازن بدحلان، بل راح ينظم حملة صيد ضد كل من اشتبه بقربه من دحلان. أقال سلسلة شخصيات من قيادة فتح واعتقل رجالات دحلان واتخذ إجراءات عقابية اقتصادية ضدهم. واضطر قسم منهم الى مغادرة الضفة الغربية وانتقلوا الى غزة أو الى الخارج.
اليوم يحظر ذكر كلمة دحلان بمعرض إيجابي في أروقة الحكم الفلسطيني في رام الله. حتى إذا طلبت نصف فنجان قهوة من حارس أبو مازن، ستصيح مشبوها على الفور. اسم دحلان يقال همسا والناس يخافون عادة من التطرق اليه، وليس فقط في صفوف كبار المسؤولين بل أيضا في صفوف الناس. انهم يفهمون ان ذكر كلمة دحلان، تخرج أبو مازن عن طوره وتثير جنونه.
هذا الرجل، محمد دحلان، الذي يعيش حتى اليوم في الامارات، لا يخرج من راس أبو مازن. إنه واثق من ان دحلان يكرس كل دقيقة من حياته لينسج المؤامرات ضده والسعي لاستبداله، وبالمناسبة انه ليس مخطئا في ذلك. فكونك مصابا بمرض الملاحقة، لا يعني أنك لست ملاحقا.
ولنعد الى البداية. أبو مازن يتحدث عن انتخابات رئاسية في تموز، ولكن من المشكوك انه سينفذها. فبعد 16 سنة من الحكم المتواصل، يطلق أصوات تردد انه يريد انتخابات جديدة، تشريعية في أيار ورئاسية في تموز. لكن هذا لا يعني انه تحول فجأة دمقراطيا. فحتى لا ينفذ ذلك، فإن ذلك غير موجود. إذا رأت الانتخابات التشريعية النور فمن المستبعد أن يكمل أبو مازن المسيرة نحو انتخابات رئاسية، يختبر فيها شعبيته لدى الناس الذين شبعوا منه.
أبو مازن داس بقدم فظة كل مؤسسة وكل قيمة ديمقراطية في المناطق طيلة السنوات الأخيرة. من الصعب ان نحدد إن كانت هذه السياسة ناجمة عن السباب المذكورة أعلاه أو هي جزء لا يتجزأ من شخصيته. في أي حال من الصعب ان تخيل هذا الرجل بالذات سيغير جلده ويتوجه فعلا الى اللعبة الديمقراطية الحقيقية حتى النهاية.
وحتى أولئك الذين يعتقدون بأنه سيستمر في انتخابات الرئاسة، مقتنعون بأنه سيسعى إلى ترتيب نتيجة الانتخابات مسبقا بشكل يضمن انتصاره. فحتى اليوم لم يقم بعد ذلك القائد العربي الذي ترك منصبه في الموعد المحدد. ولا يوجد سبب يجعلنا نؤمن بأن أبو مازن سيكون ذلك القائد الأول.
غال بيرغر – صحفي يجيد العربية من خلال خدمته العسكرية وهو يعمل مراسلا للإذاعة الرسمية والتلفزيون الرسمي للشؤون الفلسطينية
(المصدر: كان العبرية)