بدون رقابة - أخبار
ماجد كيالي يؤكد احتدام الجدل بين الفلسطينيين في شأن أحوالهم السياسية، وفي تقرير خياراتهم الوطنية والكفاحية، على شعورهم بافتقاد كياناتهم للحيوية والفاعلية والشرعية والتمثيل، وهذا يشمل المنظمة والسلطة والفصائل، التي أضحت، منذ زمن طويل، متقادمة، ومستهلكة، ومتكلسة، وليس لديها ما تضيفه.
بيد أن ذلك الجدل يؤكد، في المقابل، استعصاء القدرة على التغيير، حتى وإن توفرت الرغبة في ذلك، بحكم أسباب عديدة، أهمها:
أولا، أن التفكير السياسي الفلسطيني يتركّز في الكلّيات، على طريقة كل شيء أو لا شيء، كما يتركز في الرغبات وليس في مراكمة الإمكانيات، وهذا كله ليس له علاقة بفكرة الواقعية التي أضحت مبتذلة، بعد اختزالها، بفكرة القبول بأي حل يتأسس على إقامة دولة فلسطينية، في الضفة بالقطاع، أي في جزء من الأرض.
“الحل” ينبني على تقبّل إزاحة الرواية الرسمية لـ الشعب الفلسطيني، وتبني فكرة أن الصراع بدأ مع الاحتلال في عام 1967، مع ما يستبطنه ذلك من القبول بفكرة تجزئة الشعب، وتفكيك قضيته، واعتبار أن تقرير المصير لجزء من الشعب، كأنه حل للقضية الفلسطينية، ولـ الشعب الفلسطيني بأسره.
والفكرة المقابلة هنا تفيد بأن الواقعية في التفكير السياسي الفلسطيني تفترض تبني برامج تدرّجية، ووسائل كفاحية، بإمكان الفلسطينيين حملها، أو تحقيقها، تبعا لإمكانياتهم في مختلف أماكن وجودهم، بما لا يتطلب منهم طرح برامج أو شعارات تفوق قدراتهم، وفق طبيعة المرحلة، وفي نفس الوقت بما لا يتطلب منهم التنازل عن روايتهم التاريخية، وهويتهم الوطنية، وحقوقهم كشعب وكأفراد، على أساس المحافظة على التطابق بين الأرض والشعب والقضية.
ثانيا، بديهي أن افتقاد الشعب الفلسطيني لإقليم خاص، ومستقل، بحكم التمزق الحاصل بعد النكبة (1948)، وتوزّع هذا الشعب على دول مختلفة، وتحت سيادة أنظمة سياسية متباينة، يصعّب من إمكانية خلق إجماع وطني فلسطيني. ويخشى القول إن الحالة العربية والدولية التي سهلت ولادة منظمة التحرير (1964)، التي أضحت بمثابة الكيان المعنوي الموحد للشعب الفلسطيني، بعد صعود الحركة الوطنية الفلسطينية، والكفاح المسلح الفلسطيني، لم تعد متوفرة، بل إن المعطيات العربية والدولية لا يبدو أنها ستسمح باستعادة منظمة التحرير، أو باستنهاض الحالة الوطنية الفلسطينية مجددا؛ على الأقل في المدى المنظور.
ثالثا، ما يفترض ملاحظته، أيضا، أن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تعد هي ذاتها التي كانت في السبعينات والثمانينات، إذ تلك الحركة تحولت من حركة تحرر وطني إلى سلطة، تحت الاحتلال الاسرائليلي، في الضفة وغزة.
لذلك فإن الحديث عن التغيير السياسي لا بد أنه سيصدم بعلاقات وببنى واشتراطات السلطة، التي بات لها 27 عاما، إذ تكونت طبقة سياسية، وباتت لها مصالح، وشبكة علاقات زبائنية، وامتيازات، وهو أمر لا يمكن تجاوزه أو الاستخفاف به لدى صوغ أي رؤية سياسية تتوخى التغيير السياسي، الذي بات ضرورة ملحة في مختلف جوانب العمل الوطني الفلسطيني.
الآن، في الجدل الفلسطيني الدائر ثمة حديث عن عدة طرق لإحداث التغيير السياسي في الكيانات السياسية، علما أن كل طريقة منها تتطلب توفر شرطين، أولهما، الإرادة. وثانيهما، المعطيات المناسبة. ويمكن اختزال تلك الطرق في الآتي:
أولا، اعتماد طريقة المحاصصة الفصائلية (الكوتا) في صياغة بنى ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، التي تفترض إخضاع العملية الانتخابية فيها إلى المحاصصة الفصائلية. بيد أن تلك الطريقة تعني صراحة إعادة إنتاج الواقع القائم، والالتفاف على عملية التغيير، أو إحداث مجرد تغيير شكلي، لا أكثر.
ثانيا، الذهاب نحو حوار وطني جديد، تنخرط فيه الفصائل وشخصيات من المستقلين، لتخليق إطار قيادي مؤقت، يدير مرحلة انتقالية. وللأسف فقد شهدنا إخفاق مثل ذلك الخيار، بحكم تخلي الفصيلين الكبيرين “فتح” و”حماس” عن التوافقات العديدة التي جرى التوقيع عليها في القاهرة والدوحة ومكة وصنعاء وموسكو وغزة، وبحكم إصرار كل واحد منهما على الاحتفاظ بمكانته في السلطة، حيث فتح في الضفة وحماس في غزة.
ثالثا، ترك الأمر إلى نوع من التوحد التدريجي العملي، في سياق المواجهة المشتركة للتحديات القائمة، وهي ذات فكرة حركة “فتح”، التي كانت طرحتها في أواخر الستينات، عن “اللقاء في أرض المعركة”، إلا أن هذا الطريق لا يضمن النتيجة المرجوة، ناهيك عن اختلاف الزمن بين أواخر الستينات وعقد السبعينات، وبين المرحلة الراهنة حيث ثمة سلطتان، لا ترضى أي منهما بالتنازل للأخرى، لا “فتح” تتنازل لـ”حماس”، ولا الثانية تتنازل للأولى.
رابعا، تنظيم انتخابات عامة للمجلس الوطني الفلسطيني، كبرلمان عام لكل الفلسطينيين، باعتبار ذلك بمثابة المدخل لإعادة بناء البيت الفلسطيني، أي منظمة التحرير، بوصفها الإطار الوطني الجامع لكل الفلسطينيين، دون استثناء أي تجمع.
طبعا هذا الطريق دونه عقبات كثيرة، تتعلق بالظرف العربي والدولي، كما أنه يفترض توفر إرادة الفصيلين في الإقرار بنتائج الانتخابات مهما كانت. طبعا، هذه طريقة صعبة، بيد أنها ليست أصعب من الطرق الأخرى، في حال تم فرض الأمر بإرادة شعبية، وهو أمر يستحق، لأن الطرق الثلاثة الأولى لا تفيد إلا ببقاء القديم، أو إعادة تدوير الكيانات السائدة، ما يعني إبقاء الحالة الفلسطينية على حالها من الفوات والتكلس والشيخوخة.
يحتاج الفلسطينيون حقا إلى التغيير السياسي، ولاسيما مع حركة وطنية بات لها من العمر 55 عاما، ولم يعد لديها ما تضيفه، لكن إنجاز ذلك يحتاج إلى شروط أخرى، داخلية وخارجية، ليست متوفرة الآن، لذا المفروض، على الأقل، العمل في اتجاهها.