بدون رقابة
في صباح يوم الجمعة ال 23 من شهر سبتمبر 2022، اعتلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس منبر الأمم المتحدة، في خطاب تراجيدي مختلف شكلا عن باقي خطاباته السابقة، أما في جوهره فهو ليس سوى إعادة انتاج ممزوج بحالة إحباط شديدة لمشروعه السياسي، والذي راهن عليه طيلة ثلاث عقود، وها هو اليوم ينهار هذا المشروع تدريجيا في ظل تطورات سياسية – أمنية غير مسبوقة تشهدها القضية الفلسطينية.
خطاب ابو مازن في الأمم المتحدة
يعرف أبو مازن قبل غيره، أن هذا الخطاب هو الأخير له رئيسا لدولة فلسطين، إنها سنة الحياة والرجل يناهز ال 87 من عمره مصابا بأمراض مختلفة، لكن المهم، أن الخطاب عكس أيضا على مستوى التحليل الاستراتيجي حالة الإفلاس الهائلة التي يعيشها نظام الحكم في رام الله، افلاس سياسي يتمثل في انسداد الأفق السياسي جراء تجميد المفاوضات السياسية بين الجانبين منذ عام 2016، وتقويض حلم قيام دولة فلسطينية في ظل سيادة اسرائيلية زمانية ومكانية، وافلاس إقتصادي يترافق معه مديونية ضخمة وارتفاع الدين العام، ونسب بطالة تجاوزت 26%، وحوالي ثلث سكان فلسطين يعانون من الفقر، اضافة الى إفلاس الشرعية وسط تدني حاد في جماهيرية السلطة الفلسطينية نتيجة تحولها الى نظام قمعي استبدادي ومتعاون مع اسرائيل ضد شعبها، فالمطالبات برحيل عباس ورفاقه كانت حاضرة على يافطات المظاهرات، كما أن 78% من الشعب الفلسطيني طالبوا عباس بالاستقالة وفق دراسة أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية عام 2021.
أما الإفلاس الأهم، فهو انتهاء الدور الوظيفي الذي قامت عليه السلطة الفلسطينية وأجهزتها باعتباره كيان حاجز يحول دون احتكاك بين المجتمع العربي الفلسطيني والأسرائيليين، وفقدان السلطة الفلسطينية على بسط نفوذها في المناطق الخاضعة لها، وتحول بعض المدن الفلسطينية الى بؤر جغرافية خارج السيطرة وهي نابلس – الخليل – جنين ، ليضافوا الى قطاع غزة الذي يعيش حالة انفصال جغرافي وسياسي عن الضفة الغربية منذ عام 2007.
شرعية القوة واسئتناف المساعدات.
عوضا عن الذهاب في اجراء مصالحة تاريخية مع الشعب الفلسطيني لتعزيز الشرعية، من خلال اطلاق غير مشروط للحريات العامة واجراء الانتخابات الفلسطينية التشريعية والرئاسية والتخلي عن عقل القوة في الإدارة، اختارت السلطة الفلسطينية طريقا وعرا في سياق تحديد علاقتها مع أبناء شعبها، تمثل في سياسة فرض الأمر الواقع عبر توسيع رقعة القمع والإستبداد وشن حملات اعتقال وتصفية بحق المعارضين والناشطين.
فعلى سبيل المثال، أعتقلت الأجهزة الأمنية الفلسطينية منذ قرار الرئيس عباس تاجيل الانتخابات في أيار العام الماضي، أكثر من 300 مواطنا فلسطينيا، واغتالت أبرز المعارضين لها ” نزار بنات “، وعطلت مهام غالبية المؤسسات الفلسطينية على رأسها منظمة التحرير الفلسطينية.
وبالتزامن مع ذلك، استجدت السلطة الفلسطينية الدول المانحة الاقليمية والدولية استنئاف المساعدات المالية، كان تبرير السلطة الفلسطينية أن هذه المساعدات من شأنها تقوية السلطة الفلسطينية وتثيبت مكانها، وهو أمر تلقته الدوائر الأمنية السياسية الإسرائيلية، وشرع غانتس في اطلاق حملة دولية لدعم السلطة الفلسطينية ماليا، لكن تلك المساعدات اصطدمت مجددا بجدار الفساد في مؤسسات السلطة وفي طريقة الأنفاق، حيث خصصت السلطة الفلسطينية أكثر من مليار دولار سنويا لقطاع الأمن، ضاربة بعرض الحائط أي انفاق يهدف الى بناء برامج حماية اجتماعية وتحسين البنى التحتية وتحقيق التنمية المستدامة.
لا تصلح المساعدات والهراوات ما أفسده منطق العصابات.
على الرغم من كل محاولات إنعاش السلطة الفلسطينية، سواء عن طريق استنئاف المساعدات أو عن طريق تبني خيار “الهراوة” كنمط عام للإدارة وتثبيت النظام، يعكس المشهد الفلسطيني القائم اليوم نتاجات معاكسة لما رغب به نظام الحكم في رام الله.
هناك جسد معارضة محلي فلسطيني يكبر كل يوم ويتسع، ليشمل مختلف أطياف الشعب الفلسطيني، وهناك جيل فلسطيني شاب استطاع منذ انتفاضة القدس عام 2015، بتشكيل معادلات جديدة، وخلق نموذج أبرز ما يميزه هو انفصاله التام عن علاقات القوى الفلسطينية الرسمية الفصائلية، وهناك ايضا مزاج إقليمي – دولي يرى بأن السلطة الفلسطينية أصبحت خارج التاريخ السياسي الفلسطيني، ناهيك عن مقترحات يتم تمريرها اعلاميا بين الحين والآخر، على رأسها الدولة الواحدة ثنائية القومية، وخيار الكونفدرالية الفلسطينية – الأردنية، وهو ما يعني أن مستقبل السلطة الفلسطينية بات محل شك، وأن فرص بقائها أصبحت ضئيلة.
يقودنا هذا الى العودة مجددا الى خطاب محمود عباس الأخير، فالرجل ألقى كل ما في جعبته دفعة واحدة وبإسهاب كبير، واحيانا بمبالغات دفعته حتى للحديث عن القضايا المحرمة منذ اتفاقية أوسلو 1993، دون انتظار أي رد أو استجابة لحديثه، وإصراره على تمسكه بالورقة الرابحة الأخيرة – خيار السلام ومكافحة أشكال المقاومة – هو دليل دامغ على ضعف مكانة الرئيس، وضعف مكانة النظام الذي يرأسه.
نفهم من خطاب أبو مازن ، أن نظام رام الله استنزف كل أوراقه وهو اليوم يخوض معركة وجود من الطراز الرفيع وسط تحركات تجري خلف الكواليس، تذهب جميعها الى انهاء حقبة 28 عاما من قيام السلطة الفلسطينية.