مَركَز قَطَر السويسري للسياسة الخارجية

نافورة الماء في جنيف، اكبر ثاني مدينة في سويسرا.

بدون رقابة

حلقة 1: تَقع جنيف على بعد حوالي 10000 كيلومتر من ناطَحات السَحاب التي تَتَحَدّى الجاذبية في العاصمة القطرية الدوحة. وقد أصبحت أهمية هذه المدينة الدولية بالنسبة لِدِبلوماسية الإمارة مُوازية لأهمية كُرة القَدَم لعلامَتِها التجارية العالمية.

كانت مدينة جنيف هي المَكان الذي تَكَشَّفت فيه الكَثير من الخطوات التي وضَعَتها قَطَر بِعِناية لِتشَكيل صورة إيجابية عالمية. ولا تَبعُد هذه المدينة المَعروفة بِكَونها مَركَزاً للنشاط الدبلوماسي الدولي عن كانتون فو، مَوطن العَديد من الجَمعيات والاتحادات الرياضية العالمية، كما لا يستغرق الطريق إلى زيورخ، التي تَستَضيف مَقَر الاتحاد الدولي لِكُرَة القدم (FIFA)، سوى ثلاث ساعات فقط بالقطار .

في جنيف أيضاً، أطلقت الدولة الغَنية بالطاقة مُبادَرَتين – المركز الدولي للأمن الرياضي (ICSS) والتحالف الدولي للنزاهة الرياضية (SIGA) – بشكل مُباشِر وغير مُباشِر، لتشكيل  سَردية حول الرياضة والشَفافية في هذا القطاع.

“من المَنطقي أن تمارس قطر أنشِطتها هنا”، يقول مارك بيث، أستاذ القانون الجنائي بجامعة بازَل والخبير في مُكافحة الفساد. “لقد أصبَحَت شَبَكة المُنَظمات الدولية والمُنَظمات الرياضية والقنوات الدبلوماسية في سويسرا تُستَخدَم [الآن] من قِبَل قطَر لِخَلق صورة إيجابية عن نَفسِها على الصعيد العالمي”.

الدبلوماسية رياضية

بعد مرور اثني عشر عاماً على فوزِها باستضافة الحَدَث الكُروي الدولي، أصبَحَت الدبلوماسية الرياضية عُنصراً مُهِماً في السياسة الخارجية للدولة الخليجية، وكذلك سياستها التَنموية في الداخل. وتقول الإمارة الصغيرة إنها أنفَقت بالمُجمَل ما لا يقل عن 200 مليار دولار (196 مليار فرنك سويسري) في تشييد البُنية التَحتية قبل فَوز مَلَفَّها بِكأس العالم، كما صَرَفَت مِئات الملايين على كِبار أبطال كرة القدم، علاوة على رِعايتها بَعضاً من أفضَل فِرَق كرة القدم العالمية، واستضافَتَها قائِمة طويلة من الأحداث الرياضية العالمية.

حول ذلك، تقول هند عبد الرحمن المفتاح، المَندوبة الدائِمة لدولة قطر لدى المَقَر الأوروبي للأمم المتحدة بجنيف في مُقابلة نادِرة: “إذا نَجَحَت قَطَر في استضافة كأس العالم، فسيكون ذلك نجاحاً لِكَامل منطقة الشرق الأوسط – التي تَتَصِّف بِكَونِها منطقة صراعٍ وعدم استقرار – من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية”.

وتضيف: “قد يُوَلِّد هذا الحدث الرياضي وَعياً جديداً حَول كيفية الاستثمار في هذه المنطقة، ويُوجه رسالة مَفادها بأننا يُمكن أن نَكون جُزءاً من كيفية إشراك الرياضة في قضايا حقوق الإنسان، وصُنع السلام وحَلّ النِزاعات”.

كانت الرياضة مسألة مِحورية في سياسة الحكومة القطرية، حتى أنها كانت مُتَضّمَّنة في خطط الاستِدامة والتَنمية (رؤية قطر الوطنية 2030) بِوَصفها عُنصراً يُمكِن أن يساعد البلاد على تَنويع اقتصادها المُرتكز حصريا على الوقود الأحفوري، وتَعزيز أنماط الحياة الصحّية، وجَذب السياح والمُقيمين الأجانب، بما في ذلك جياني إنفانتينو، الرئيس الحالي للاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا”. وبالنسبة لهذه الدولة الخليجية، يمثل الاستثمار في الرياضة أيضاً وسيلة لِتَحسين صورتها الدولية وبِناء علاقات دبلوماسية.

وكما تضيف سفيرة قطر لدى الأمم المتحدة: “تبذُل قَطَر قصارى جُهدها في كيفية توظيف الرياضة بِحَد ذاتَها والاستثمار فيها – من خِلال العلاقات مع الفيفا، والمنظمات غير الحكومية والمنظمات العاملة في إطار الرياضة – بَوصفِها لُغة تؤَكِّد على حقوق الإنسان الأساسية، والسلام، والعَمل والوَساطة”.

المقر الرياضي في جنيف

أنشأَت قَطَر على مَدى العَقد الماضي، شبكةَ علاقات مُعَقَّدة مع العَديد من وكالات الأمم المتَّحدة التي تتخذ من جنيف مَقَراً لها. كما ضاعفت مساهماتها في “جدول الأنصبة المقررة” [وهي الحصة التي يتعين على كل دولة عضوة في الأمم المتحدة دفعها للميزانيات العادية وميزانية حفظ السلام]. وبحسب المُنَظمة الأمَمية، شَمِل ذلك تَبَرُّعات بِقيمة 49 مليون دولار (48 مليون فرنك سويسري) للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بغية مُساعدة اللاجئين والنازِحين في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وبنغلاديش، والصومال، في الفترة بين عامي 2012 و2022.

ووفقاً للسفيرة هند المفتاح، تم مؤخراً إبرام اتفاق بين المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين و”منظمات خيرية” قطرية ولُجنة استضافة كأس العالم، لِبِناء مُجتَمَعات رياضية مَحَلّية في دول أفريقية.

تتمتع قطر أيضاً بِنفوذ في منظمة الصحة العالمية (WHO) من خلال جياني إنفانتينو الذي يَزور جنيف بانتظام. وقد أشادَ رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم في أكتوبر 2021، بالشراكة الخاصة بين الإمارة ومُنَظَمة الصَحة العالمية للتَرويج “لإطارٍ صحّي وآمن لبطولة كأس العالم لكرة القدم قطر 2022”.

وقد تَرَكَت الإمارة بَصمَتها على مدينة جنيف، حتى قَبل أعمال التَجديد الكبرى في المَقَر الأوروبي للأمم المتحدة بِجنيف، المعروف باسم قصر الأمم. ففي عام 2019، وقَبل عامٍ من انضمام قَطَر إلى عضوية مَجلس حقوق الإنسان، دَشَّن وزير الدولة للشؤون الخارجية القاعة رقم “19”  – ثاني أكبر قاعة بِقصر الأمم المتحدة – بعد تَجديدها بِدعم من قَطَر بقيمة 22 مليون فرنك سويسري.

وكما قال المكتب الصحفي للأمم المتحدة في جنيف لـ swissinfo.ch فإن القرار الذي اعتمدته الجمعية العامة في أبريل من هذا العام بالتَرحيب باستِضافة قطر لِبطولة كأس العالم لِكرة القدم 2022 باعتِبارها أوَّل بطولة تُنَظَّم في الشرق الأوسط، أكَّد على “موقف الأمم المتحدة الثابت منذ أمَدَ طويل بأن الرياضة أداة مُهمة في تَعزيز أهدافٍ مُعينة، لا سيما في مَجالات التنمية والسلام”.

ونَصَّ القرار على أن البطولة تُمَثِّل “مِعياراً للصحة العامة” للدول الأخرى الراغِبة في استضافة أحداث رياضية في المُستقبل، من خِلال “تَرويجها للصَحّة البَدَنية والعَقلية والرَفاه النَفسي والاجتماعي”.

من جانبها أيضاً، أطلَقَت قَطَر مُبادَراتها الخاصة، بما في ذلك المركز الدولي للأمن الرياضي في عام 2010 ، (الذي يقع مقره الرئيسي في الدوحة) والمَسجل في جنيف، والمنظمة الدولية للنزاهة في الرياضة (في عام 2016) التي تأسَّسَت نتيجة جهود قادها المركز الدولي للأمن الرياضي.

وقد خَدَمَت كلا المُباَدَرتين مصالح الإمارة بِشَكلٍ جيَّد لتوسيع نطاق وصولها إلى المؤسسات الدولية من خلال تأكيد دورها كمؤيّدٍ للنزاهة والشفافية في الرياضة (انظر التقارير المرفقة). ومن خلال إبرامِهما لاتفاقيات مُختلفة مع العديد من وكالات الأمم المتحدة ومكاتبها، حَظِيَت هاتان المنظمتان الرياضيتان اللتان تتخذان من سويسرا مقراً لهما بالاعتراف والحضور، لا سيما في البيانات الصحفية الصادرة عن الأطراف المَعنية.

بالإضافة إلى ما سبق، توجد منظمة أخرى تعمل أيضاً مع قطر على أجندتها الخاصة لمُكافحة الفساد والنزاهة، هي مركز حكم القانون ومكافحة الفساد (ROLACC). وقد تم افتتاح المركز في جنيف في عام 2017  من قبل مؤسسها علي بن فطيس المري، [الذي شغل منصب النائب العام لدولة قطر حتى عام 2010]، كما شغل منصب المحام الخاص لمكتب للأمم المتحدة المعني الفساد. وجَرى افتتاح المركز بحضور مايكل مولَّر، المدير العام السابق للأمم المتحدة في جنيف، وممثل عن كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة.

وبِدَعمٍ من دولة قطر، دَخَل المَركَز في شراكةٍ مع مكتب الأمم المتحدة المَعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) لِمَنح جوائز لِمكافحة الفساد. ومن خلال أميرها، تَبَرَّعَت قطر  للوكالة التي تَتَّخِذ من فيينا مقراً لها بِتِمثال لِيَد تَمتَد إلى الأعلى يُفتَرض أنها تُجَسِّد مُحاربة الإفلات من العقاب. وقالت بعثة قطر لدى الأمم المتحدة إن جوائِز أخرى للمركز سوف تُوَزَّع في الإمارة خلال شهر نوفمبر.

بعد أن شككت تقارير إعلامية في مصدر الأموال التي استخدمها المري لشراء عقارات باهظة الثمن في باريس وجنيف، بما في ذلك مكاتب ROLACC المسجلة تحت شركة سويسرية يملكها، بالإضافة إلى منزل واسع في كولونيه، ذكرت صحيفة “جورنال دي ديمونش” الفرنسية أن المري واجه اتهامات في فرنسا، بما في ذلك غسيل الأموال. القضيتان جاريتان.

خلال جلسة توقيع في معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث (UNITAR) في جنيف في أوائل نوفمبر، قال المري لـ  swissinfo.ch أنه “على مدار العامين الماضيين منكوفيد -19، كانت ROLACC تعمل من قطر. وردا على سؤال حول التهم الموجهة إليه قال “ليس لدي أي فكرة. أنا أحارب الفساد”.

لا ذِكر لمسألة حقوق الإنسان

لم تخلُ مُحاولة قطر استخدام الرياضة لتلميع صورتها والتَسَتُّر على التكلفة البَشرية للألعاب ومَزاعم الفَساد المُحيطة بفوزها باستضافة مونديال 2022 من الجَدَل. واتَّهَمت جماعات حقوق الإنسان الإمارة باتباع أجندة أُحادية الجانب لإخفاء انتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.

من جانبه، يُعارض يَنس سيجر أندرسَن، مدير مُبادرة “احترم قوانين اللعبة” (Play the Game) الدنماركية، والذي لم يَشَأ أن يَخُصَّ قطر بالذكر، استخدام الرياضة من قِبَل الأنظمة الاستبدادية. وتهدف هذه المبادرة إلى رَفع المَعايير الأخلاقية للرياضة وتَعزيز الديمقراطية والشفافية.

وكما يقول: “إذا نَظرتَ إلى القِيَم التي تَدَّعي الرياضة أنها تُمثلها وتُعَزِّزها، فينبغي أن تقف الرياضة إلى جانِب القيَم الديمقراطية. ومِثل هذه القيم يجب أن لا توضع في أيدي قوى شريرة”.

وبرأيه، فإن قيام قطر باستغلال هذه القيَم لِمَصلحَتِها الخاصة من خلال قنواتٍ رَسمية وغيرِ رَسمية في سويسرا، هو أمرٌ مُثيرٌ للقَلَق بالنسبة للبَعض.

كما هو الحال دائماً، اتَّسَمَ الموقف السويسري الرَسمي بالتزام الصَمت”، يقول الخَبير الدولي في مُكافَحة الفَساد مارك بيث. ويضيف: “إنه المكان الذي يَحدث فيه كل شيء وحَيث يتم التسامح مع كل شيء”.

“الحكومة لا تَهتَمّ البّتّة، وهي لا تُدرٍك ما يَحدث حتى. إنَّهم يستخدمونها كمِنَصّة”، وفق الباحث القانوني السويسري.

حقوق الإنسان في مجال الرياضة

حَول ذلك، كتب مُتَحَدِّث باسم البعثة السويسرية لدى الأمم المُتحدة في جنيف لـ  swissinfo.ch: “تلتَزم الحكومة السويسرية باحترام حقوق الإنسان في مجال الرياضة بشكل عام، وهي تحرص على ذلك بشكل خاص بالنسبة لكأس العالم لكرة القدم 2022 في قطر”. وكما جاء أيضاً: “لقد عَمِلت الحكومة منذ أكثر من عَشرِ سنوات على تَحسين ظروف العمل والمَعيشة للعُمّال الوافدين في الشرق الأوسط، بما في ذلك في قطر، من خلال دعَم الإصلاحات في دول الخليج من خلالِ ُمنظمات شَريكة، ومن خلال حوار مُباشر مع وزارة العمل القطرية أيضاً”.

وكما جاء في تعليق البعثة السويسرية لدى الأمم المُتحدة في جنيف، لَمْ تتعاون سويسرا مع المركز الدولي للأمن الرياضي (ICSS)، أو التحالف العالمي للنزاهة الرياضية (SIGA)، أو مَركَز حُكم القانون ومُكافحة الفَساد (ROLACC).

بعد انقضاء أكثر من 10 سنوات على انطلاق حملة العلاقات العامة في قطر، يَصعَب تحديد ما حَقَقته الإمارة بالضَبط. وقد يكون الانتقاد المُوَجّه إلى سِجِل قطر في مجال حقوق الإنسان خافتاً إلى حَدٍّ ما ضِمن بيئة جنيف الدولية، مع تَجَنُّب بعض المٌنظمات إدانة قطر بشكل مباشِر.

وكما جاء في تقرير دولي حول العمل القَسري نَشَرته منظمة العَمل الدولية في شهر سبتمبر الماضي، فقد أثر “التَقَدَمُّ الكبير” الناتج عن سَنِّ الإصلاحات التي أعقبَت مُفاوضات قطر مع الوكالة التابعة للأمم المتحدة “بشكل إيجابي” على مئات الآلاف من العمال الوافدين في قطر.

من جهتها، تدافع السفيرة هند المفتاح عن توقيت هذه الإصلاحات، لكنها تَرفض أن تكون هذه التغييرات ناتجة عن ضغوط خارجية: “لم يكن كأس العالم السَبَب الرئيسي وراءَ الإصلاحات في مَلَف العمّال، لكنه ساهَمَ في تَعجيل الإجراءات داخل مُنظَمة العَمل الدولية”، كما تقول، مُشَدِّدة على استمرار هذه الاصلاحات إلى ما بَعد الحَدَث الرياضي الكبير لهذا العام.

ويمضي تقرير مُنظمة العَمَل الدولية إلى القول إن العَديد من العُمّال لَمْ يستفيدوا لِحَد الآن من هذه التغييرات التَشريعية. كما لا تزال المَشاكل المُتمثِلة في عَدَم دفع الأجور، وانتقام أرباب العَمَل من الموظفين الراغبين بِتَغيير وظائِفِهم، وصعوبة الوصول إلى إروقة العدالة مستمرة إلى اليوم.

وبوصفها عضواً حالياً في مجلس حقوق الإنسان، استضافت قطر حَدَثاً جانبياً خلال دورة سبتمبر لِمُناقشة التحديات المُتعلِّقة بحقوق الإنسان في أقل البلدان نمواً، قَبل مؤتمرٍ سَيُعقد في الدوحة العام المقبل.

وكان من بين الحضور رولف تريغَر، رئيس قسم أقل البلدان نمواً في مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD). ورَفَض تريغر وجود أي تَناقض بين انتهاكات حقوق العمال في قَطَر والدَعم الدولي لِحكومة البلاد.

“تُوَفر قَطَر فُرَص عَمل للكثير من العُمّال الوافدين”، كما يقول. “بَعدَ ذلك يُمكِنُك مُناقشة الأوضاع [الخاصة بهؤلاء العمال في الإمارة]”.

وفي الوقت نفسه، قال مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان لـ SWI swissinfo.ch بأن قطر، ومنذ الزيارة الأخيرة التي قام بها مُقررها الخاص المَعني بِحقوق المُهاجرين في عام 2013 للبلاد، لَم تَستجِب لِطلب زيارة مُتابعة هذا العام. كذلك، أجَّلَت قطر – أو لم تَرُد أصلاً – على طلبات مُحققي حقوق الإنسان الآخرين التابِعين للأمم المتحدة لِزيارة البلاد بغية إعداد تقرير عن مجمل القضايا الأخرى ابتداءً من العبودية وحتى حُرية الدين أو المُعتَقَد.

ـــــــــــــــ

نشر هذا التقرير لاول مرة على Swiss info
بدون رقابة / swiss info
Exit mobile version