من جنين إلى نابلس: انبعاث المقاومة المنظمة

عرين الاسود

من جنين إلى نابلس: انبعاث المقاومة المنظمة

ظهرت منذ العام الماضي العديد من التشكيلات المقاوِمة في شمال الضفة الغربية تحديدًا، مُتّخذة أسماء مختلفة، برزَ منها كتيبة جنين وعرين الأسود في جنين ونابلس على التوالي. وقد أضحت هذه الظاهرة مصدر تعجّب ودهشة، خاصة لمن أعتقد أن الضفة الغربية أصبحت خارج الصراع، فهي تعاني من منظومات تعاون داخلية من جهة، وتعقيدات فضائية وجغرافية تحول دون تطور مقاومة منظمة فيها.

وقد أصبحت كثافة العمليات، خاصة عمليات إطلاق النار، دلالة على الانتقال النوعي في شكل الفعل المقاوِم ونوعه. فهو لا يقترن فقط بالحالات المنظمة التي تتخذ شكلًا دفاعيًا ذاتيًا وبؤريًا في شمال الضفة الغربية، ولكنها تتضمن استمرار العمليات الذرية، أو تلك العمليات التي تحدث دون أن يكون هناك محركات تنظيمية مباشرة وراءها، كما ظهر ذلك بشكل جلي في عمليتيْ الشهيد عُدي التميمي، والذي نجح بتنفيذ عملية والاختفاء لمدة تقارب الأسبوعين، قبل أن يقدم على تنفيذ عملية أخرى.

وقد أصبح لهذه التنظيمات البؤرية أهمية ليس فقط لما تمتلكه من قدرة على بناء بؤر سياسية وعسكرية والدفاع عنها، ولكن لقدرتها كذلك على إصدار البيان السياسي الموجِّه للفعل الشعبي العام، خاصة في نابلس حيث تشتد المواجهة، ويشتد الحصار وتعاون منظومات العدوان الجماعي على المجتمع الفلسطيني. يكفي فقط أن نقول إنه لأول مرة منذ 16 عامًا تنشأ في الضفة الغربية جهة تَجمع ما بين الفعل العسكري والبيان السياسي، أي جهة تستطيع إطلاق بيانٍ سياسيٍ تلتحم خلفه شرائح اجتماعية واسعة. وقد بَنت هذه المجموعات الثقة مع جمهور واسع بعد أكثر من عام من المواجهة، تكبدت فيه هذه التشكيلات أثمان باهظة، بما فيها سلسلة من شهداء الولادة.

بالطبع هذا لا يعني أن تشجّر المقاومة واتخاذها أشكالًا منظمة مرتبطة بالفضاءات البؤرية أمرٌ يسير، أو أن الحفاظ على هذا النمط من التنظيم البؤري ممكنٌ بشكل كامل، فهو محفوف بالمخاطر، بما فيها إمكانية صمودها أمام مواجهة مع خصوم داخليين وجيش متطور مستعد للتدخل في هذه الفضاءات من خلال تكتيكات مختلفة، منها توظيف القدرات الجوية، وعمليات الاعتقال والاغتيال، وإمكانية اللجوء لعمليات عسكرية واسعة.

كما أن هذه المجموعات تواجه اليوم محاولات احتواء قدرتها على الفعل من خلال إعادة تعريف حرية التحرك في منطقة نابلس، وحصرها في مواقعها البؤرية في محاولة لنزع قدرتها على الفعل الهجومي المباغت، ما يمكن أن يُفقدها أيضًا بعضًا من زخمها الجماهيري. إحدى الإشكاليات الكبرى التي تواجه هكذا نوع من التنظيمات الدفاعية أنها بعد أن تتمكن من اجتراح جُغرافيا صغيرة، أو فضاء آمن نسبيًا، تصبح إمكانيات احتوائها داخل تلك الجغرافيا ومن ثم القيام بعمليات تدخل عسكرية واقتصادية متنوعة لحيلولة دون توسعها وتزايد قوتها ممكنة. فمن جهة تنتزع عنها إمكانية الفعل الهجومي، ومن جهة أخرى تضعها في حالة قلقٍ وضغطٍ دائم. لهذا تحديدًا حاولت مجموعة عرين الأسود مثلًا الاستحواذ على الليل من خلال دعوات متكررة للمجتمع الفلسطيني للخروج ليلًا، وبالتالي محاولة منع التدخل العسكري في الليل، أو بالحد الأدنى تعقيده. ورغم التكتيكات المختلفة الموظّفة من قبل المجموعات إلا أن العمليات الليلية التي أقدم عليها الاحتلال، وعمليات الاغتيال ذات البصمة الخفية في الآونة الاخيرة تشير إلى تصاعد الدور الهجومي في محاولة الأخير سحب بساط الفاعلية من يد هذه المجموعات المقاتلة.

هناك سؤال مهم يؤرق العدو، هل هناك حاجة لعملية سور واقٍ جديدة؟ والإحالة هنا إلى عملية إعادة احتلال مراكز المدن الفلسطينية في الانتفاضة الثانية. هناك الكثير من المفارقات هنا، بينها أن رئيس هيئة الأركان الحالي هو من قاد جيش الاحتلال في احتلال نابلس عام 2002، وهو من بنى سمعته العسكرية من خلال حربه على هذه المدينة. ولكن الإجابة عند العدو بدأت تتضح، على الأقل مرحليًا، بمعنى أنه يمكن بناء تكتيكات ترهق مجموعات المقاومة وتضعفها دون الحاجة لعمليات عسكرية واسعة حتى اللحظة. وضمن هذه الإجابة يمكن فهم ما حصل من اغتيال للشهيد تامر الكيلاني، ومن اغتيال إحدى خلايا عرين الأسود صباح 25 تشرين الأول الحالي.

رغم ما سبق إلا أنه لا يمكن لنا القفز عن دهشة انبعاث المقاومة المنظمة بأشكالها الحالية في جنين ونابلس، وعن العوامل المعقدة التي تدخل في صياغة إمكانية نشأتها.

سياسة فك الارتباط البطيء

إذا أمضى المرء بعض الوقت في تفحص التحليل الإسرائيلي للأحداث الجارية في شمال الضفة الغربية سيصل إلى استنتاج بأن المقاومة قد انبعثت من اللاشيء. إن المقاومة بالنسبة للمخيلة الإسرائيلية هي حصيلة ثانوية لعقلية فلسطينية «شيطانية» تصر على قتال احتلال أجنبي.

ليس للعدو شأن بهذا الانبعاث، وليس لتوسعه بالضفة الغربية، ومصادرته للأراضي، وقرصنته المتكررة للضرائب الفلسطينية، ولجنوده السعداء بالضغط على الزناد، ومصفوفات السيطرة والتحكم -جدران وحواجز ومعتقلات وقتل-، ودعمه الضمني والصريح لمليشيات المستوطنين المنظمة والمسلحة التي تطوف في أنحاء الضفة الغربية خالقة الدمار والفوضى، ليس لكل ما سبق أي علاقة بانبعاث مقاومة فلسطينية مسلحة وشبه منظمة في شمال الضفة الغربية.

يمكن القول إن منشأ اللحظة السياسية الراهنة معقد ومتعدد المنابع. فولادة مقاومة شبه منظمة يرتبط بالتاريخ الشخصي للمقاتلين الذين بادروا إلى إنشاء هذه الحركة الجديدة في جنين ونابلس. وقد ولدت أيضًا من رحم ذاكرة جمعية حية، تذكر بوضوح قدرة المقاومة في جنين على إرغام العدو على إخلاء أربع مستوطنات في منطقة جنين العام 2006، ويمكن القول إن هذه الذاكرة استُحضِرت عند محاولة بعض المستوطنين العودة في العامين الماضيين إلى إحدى تلك المستوطنات (حومش). كما ترتبط ولادة هذه المقاومة بالذاكرة الجمعية للأقارب والأصدقاء الذين قدمهم المجتمع الفلسطيني في معاركه ومواجهاته مع هذا العدو والتي تمتد إلى لحظة نشأة الحركة الصهيونية على الأرض الفلسطينية.

كما أنها ترتبط مع مختلف الهبات السياسية التي ظهرت في السنوات الست الماضية «العمليات الذرية» أو ما يسمى بالعمليات الفردية، والحروب على غزة، وهبة رمضان عام 2021، وهبة باب الأسباط وباب حطة، وغيرها من لحظات التعبئة الجماهيرية الهامة في الأعوام القليلة الماضية.

لكن ربما ما يعتبر أمرًا مركزيًا هو «انكماش وتقلص» السلطة الفلسطينية. وهذا الانكماش يتخذ أكثر من شكل. فهي غير قادرة على بناء صورة حول المستقبل، وكل ما تقدمه في هذا المضمار هو الرعب والفوضى، أي مستقبل مكوّن من الاقتتال الداخلي والفلتان الأمني كركيزة في إمكانية استمرارها اليوم كسلطة سياسية. بمعنى آخر، الخوف والقلق هو الحليف الأيديولوجي الوحيد الذي تمتلكه السلطة في الإبقاء على إمكانية استمرارها. هذا العجز عن توضيح معالم المستقبل يقابله بحثٌ عن بديل يدور في فلك الممكن سياسيًا، أي الانتفاض والمقاومة كركيزة في إنتاج ممكنات سياسية جديدة.

وما يزيد من هذا التقلّص هو الكيفية التي يتعامل بها العدو مع السلطة الفلسطينية، والتي يراها نسخة أكثر تعقيدًا من جيش لبنان الجنوبي. بينما الأمريكيون ليسوا مهتمين كثيرًا بصراع تقفز الأنظمة العربية فوقه، أنظمة لا تُعير الكثير من الأهمية للقضية الفلسطينية وتبدو في ممارستها السياسية أنها تجاوزت حتى أهميته الرمزية لشعوبها، فهي منشغلة بإمكانية بقائها في ظل نزاعاتها مع إيران وصراعات قوى عالمية تعيد صياغة شكل وطبيعة النظام السياسي والاقتصادي الدولي.

كما أن السياسة الأمريكية بالنهاية تدرك أن عجز القيادة الفلسطينية الحالية وبالتالي تعاونها يعنى أن استمرار تلك السلطة لا يتطلب سوى ضخ مادي محدود، ويأتي دون أثمان سياسية كبيرة. فما الذي فعلته السلطة بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، أو بعد «صفقة القرن» أو غيرها من المحطات السياسية الحرجة في العقد الأخير؟ لم تكن إجابتها سوى استقرار في سياسات التعاون الأمني.

ورغم أن الأوروبيين غير سعداء بسداد الفاتورة المالية للسلطة الفلسطينية، لأن الدعم المادي التي تقدمه تلك الدول لم يولد التطور الاقتصادي المنشود، ولا أفضى إلى سلام سياسي شامل، إلا أنهم يميلون ولأسباب مختلفة ومعقدة -عقد ذنب تاريخية مرتبطة بمعاداة السامية، ومصالح استراتيجية ترتبط بالموقع الجغرافي للمنطقة العربية- إلى دعم العدو من باب المساهمة في حماية أوروبا. لكن الأهم ربما هو قبول أوروبا بدور اللاعب الثانوي خلف الولايات المتحدة الأمريكية في غالبية سياساتها العالمية. بتعبير آخر، إن القوى التي تدعم السلطة الفلسطينية تهملها وتضعفها وتتجاوزها أو تستحقرها بشكل مباشر أو غير مباشر.

وبالمقابل، تبدو النخب الرأسمالية والأمنية والسياسية الصغيرة المستفيدة مباشرة من إدارة الفضاء الاقتصادي والبيروقراطي المدعو بالسلطة الفلسطينية غير قادرة على تزويد داعميها بما قدمته تاريخيًا لهم: وطنية فلسطينية مدجنة تتعاون مع العدو، في الوقت الذي تنصب نفسها فيه بنجاح ممثلًا للشعب الفلسطيني في أعين الشعب الفلسطيني.

لقد فقدت النخبة هذه القدرة بكل بساطة. لم تعد تملك قدرة تعريف معالم الوطنية الفلسطينية ومستقبلها، كما أنها لا تستطيع باسم الوطنية الفلسطينية قتل المقاومة وإمكانية تطورها في الضفة الغربية. ورغم أنها ما زالت تملك قوة توزيع الراتب، إلا أنها بعيدًا عن هذه القدرة فقدت كثيرًا من قوتها الرمزية السياسية.

تبدو هذه النخبة منشغلة في اقتتال داخلي حول من يخلف الرئيس الحالي المتوعك صحيًا، محمود عباس. وفي الواقع، يمكن للمرء أن يعتبر أن المقاومة وُلِدَت ضمن هذه العملية البطيئة التي تتضمن فك ارتباط بين نخبة تتقاتل داخليًا على من يدير البيروقراطية، وبين قاعدة اجتماعية أوسع تثور ضدها وضد الاحتلال.

لذلك ليس من المستغرب أن تجد مقاتلين فلسطينيين مرتبطين بحركة فتح ولكن ملتحمين مع تنظيمات سياسية أخرى مثل الجهاد الإسلامي وحماس والجبهة الشعبية، أو أن تجد أفرادًا من الأمن الفلسطيني منخرطين في القتال المسلح ضد العدو، ويتحَدون قيادات السلطة بشكل مباشر. حيث إن العديد من الشخصيات المفتاحية في هذه الحركة هم من رجال الأمن السابقين أو أعضاء في حركة فتح أو من أبنائهم.

بتعبير آخر، نحن أمام سلطة يتجاهلها ويدوس فوقها مموّلوها وداعموها، وفي الوقت نفسه يتجاهلها ويتحداها مجتمعها. بل وينتفض وإن كان بشكل حذر جزء من قاعدتها الاجتماعية المباشرة.

فرضية العدو الاستراتيجية في الضفة الغربية

اتخذ العدو من الانتفاضة الثانية منطلقًا في صياغة إحدى أفكاره الأهم بما يتعلق بالدور النضالي للضفة الغربية. فمنذ العام 2005 هناك فرضية إسرائيلية ناظمة تعتبر أن الفلسطينيين في الضفة الغربية قد وصلوا في هزيمتهم إلى نقطة اللاعودة.

فقد شكلت الانتفاضة عبئًا ثقيلًا على الإرادة والمقدرات الفلسطينية والرغبة في مواصلة القتال ضد العدو. وقد خرج الفلسطينيون من الانتفاضة الثانية بنجاحات محدودة في غزة وجنين (انسحاب إسرائيلي أحادي الجانب)، وتضمنت الانتفاضة انقسامات داخلية وصلت ذروتها بسيطرة حركة حماس على قطاع غزة.

افترض العدو بأن هذا الواقع في الضفة الغربية يعني أن الفلسطينيين ليسوا في موقع يمكنهم من تحدي توسعها الاستيطاني. بل يمكن القول إن أعداد المستوطنين شاهدٌ ماديٌ على ذلك. فقد قامت دولة الاحتلال بزيادة أعداد المستوطنين المقيمين في الضفة الغربية والقدس بأكثر من ثلاث أضعاف منذ العام 2000.

وبينما عمل الاحتلال على نقل المستوطنين إلى الضفة، كانت السلطة منشغلة بمشروع بناء الدولة، والتي بطبيعة الحال لم يكن لدى العدو أي نوايا للسماح بتحققها وتجسيدها على الأرض. بالفعل، تحدث بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الأسبق عن «السلام الاقتصادي»، بينما قدم مستشار مقرب من فلك نفتالي بينيت ونتنياهو مقولته حول «تقليص الصراع». حتى إن داني دانون، والذي كان حينها سفير «إسرائيل» لدى الأمم المتحدة كتب مقالا في النيويورك تايمز بعنوان «ما المشكلة بالاستسلام الفلسطيني؟»

لم يكن لدى العدو ما يقدمه لقيادة السلطة الفلسطينية باستثناء فضاءٍ ماليٍ محدود، تستطيع قيادة السلطة والنخب القريبة منها الاستمرار بالسيطرة عليه والاستفادة منه مقابل سكونها السياسي والقانوني وتعاونها الأمني المستمر.

وقد تسرب هذا الافتراض الاسرائيلي -هزيمة الفلسطينيين- إلى بعض الاقتراحات الأمريكية للسلام. إذ لم تتضمن خطة ترمب على سبيل المثال حق العودة، ولا دولة فلسطينية متواصلة، ولا حق تقرير المصير، ولا حقوق متساوية، ولا عاصمة في القدس. كل ما قدمته كان نسخة معدلة عن الواقع الحالي مقابل استسلام شبه كامل، ووعود باهتة بالمزيد من الأموال.

كان العدو سعيدًا بالغرف المغلقة. إذ إن الضفة الغربية كانت الأقل إزعاجًا مقارنة بكافة الجغرافيات الفلسطينية المختلفة. وقد جاءت أحداث 2021 لتثبت ذلك. تحول الانفجار في القدس في رمضان العام 2021 إلى هبة شعبية شاملة شَمِلت الفلسطينيين في الداخل، وإلى عدوان عسكري على غزة. فيما كانت المشاركة في الضفة الغربية ضعيفة. صحيح أن ما يزيد عن 30 فلسطينيا استشهدوا في الضفة الغربية خلال الهبة، إلا أن المسافة بين ما كان بمستطاع الضفة الغربية القيام به، وما قامت فعليا به بقيت شاسعة.  ولذا هتف المتظاهرون في القدس بشعارات مثل «منشان الله، يا ضفة يلا».

وقد احتفلت غرف التحرير والأخبار الاسرائيلية بالتعاون الفعال للأمن الفلسطيني، وبكونه عنصرًا مركزيًا في تحييد الدور الذي يلعبه الفلسطينيون في الضفة الغربية في المقاومة الشعبية والمسلحة. وقد ذهل العدو من الزخم السياسي والنضالي في مناطق مثل اللد والرملة ويافا والنقب وعكا وحيفا وغيرها من القرى والبلدات داخل الخط الأخضر، وبدا أقل قلقا تجاه جنين ونابلس وطولكرم ورام الله والخليل وبيت لحم.

ولكن هذه الحفاوة أثبتت أنها سابقة لأوانها. حيث بدأت الضفة الغربية تُلقي بثقلها مرة أخرى في الصراع مع العدو.

فضاءات جديدة للمقاومة: معضلة الضفة الغربية

بدأت السردية الإسرائيلية حول الضفة الغربية بالتبدل في بدايات 2022، حيث بدأ الجيش الإسرائيلي بإجراء المزيد من حملات الاعتقالات في أنحاء الضفة الغربية. وقد واجهت «إسرائيل» تصاعدًا وتناميًا في عدد عمليات إطلاق النار، إذ بلغ عددها عام 2020 فقط 19 هجمة، ولكنها تنامت إلى 98 عملية عام 2021، في حين وصلت إلى حوالي 130 عملية حتى بداية أيلول 2022 بحسب أرقام العدو نفسه. وقد اعتقل العدو أكثر من 2110 فلسطينيين منذ بداية العام في محاولته لمنع قيام انتفاضة وتوسعها إلى جغرافيات مختلفة.

وقد أعلن العدو عن عملية جديدة في أعقاب تصاعد الهجمات في الضفة الغربية أسماها «كاسر الأمواج»، حيث ارتكزت على إصلاح جدار الضم والتوسع لمنع عمليات التهريب إلى الداخل الفلسطيني، ومحاربة نشوء مجموعات المقاومة في نابلس ومخيم جنين من خلال عمليات عسكرية متنوعة تشمل الاغتيال والاعتقال وتوظيف الوحدات الخاصة كان آخرها عملية اغتيال في نابلس أدت إلى استشهاد تامر الكيلاني، حيث وظّف فيه الاحتلال عبوة ناسفة مخبأة في دراجة نارية. تشابه هذه العملية عمليات دولة الاحتلال في مناطق لا تمتلك فيه حرية التحرك مثل إيران ولبنان وقطاع غزة وسوريا، ولكن هذه المرة في قلب الضفة الغربية وعلى مرمى من مستوطناتها.

تنامت هذه المقاومة المنظمة رغم مواجهتها الثالوث المقدس من سياسات مكافحة التمرد، وتتمثل بجهازٍ أمني تابع للسلطة الفلسطينية متماهٍ ومتعاونٍ مع الاحتلال، وتباعد فضائي نسبي يتيح للعدو استخدام القوة النارية المكثفة، وجيش إسرائيلي يملك حرية شبه مطلقة في الحركة داخل المناطق الفلسطينية تمكنه من إدارة عمليات الاعتقال والاغتيال.

رغم ما سبق، نحت الفلسطينيون في مخيم جنين وفي البلدة القديمة في نابلس وغيرها من التجمعات الصغيرة والفضاءات ذات الكثافة السكانية والمعمارية العالية، استراتيجية ساهمت في حل بعضٍ من المعضلات المذكورة أعلاه. إذ أنتجوا فضاءات صغيرة للمقاومة تختبئ في غابات الإسمنت، بحيث لا تستطيع قوات الاحتلال أو السلطة الفلسطينية العمل دون مواجهة قوة نارية كثيفة. وقد منحت هذه الاستراتيجية القدرة لهذه المجموعات على العمل بحرية نسبية في تلك المناطق.

بات العدو متصالحًا مع حاجته لتفادي الدخول إلى هذه الفضاءات وتقليله. وقد أعلن حديثًا، وإن كان بشكل غير رسمي، أنه سيستخدم القوة الجوية لاستهداف المقاتلين الفلسطينيين في هذه التجمعات الصغيرة. وقد باشر العدو بمعاملة هذه الفضاءات وكأنها غزّات صغيرة، مطبقًا استراتيجية عسكرية تبحث بشكل مستمرّ عن طرق القتال من مسافات آمنة، أو من خلال أدوات مستجدة. وكأنه في استراتيجيته نراه يحاصر من الأطراف ويضرب بعمق بشكل منخفِض الوتيرة ومستمر بطرق وآليات يتفادى فيه المعركة المفتوحة حتى الآن.

يتشكّل هذا التوق للمسافة الآمنة من مكونين؛ الأوّل هو استخدام تكتيكات وأدوات تستبعد الجنود من ساحة المعركة مثل القوة الجوية والاغتيال عن بعد على سبيل المثال. وأمّا الثاني فهو في وضع السلطة الفلسطينية في مقدمة استراتيجيته العسكرية والسياسية لمحارَبة هذه الظواهر، وبهذا يبتعد عن التماس المباشر مع الفلسطينيين وقد ضم الاحتلال إلى هذه السياسات تكثيفًا لأدوات العدوان الجماعي، خاصة الحصار لمدينة نابلس، والذي يستهدف فصل الحاضنة الاجتماعية عن المقاومة.

نابلس: الحرب بالوكالة

رغم أهمية جنين ومخيمها في صعود هذه الظاهرة شبه المنظمة، إلّا أن الحالة النضالية في نابلس تبقى أكثر خطرًا من منظور العدو، خاصة عند الأخذ بالاعتبار الأهمية الجغرافية للمدينة وضواحيها.

لا يوجد في في جنين إلا القليل من البنى التحتية الاستيطانية منذ العام 2006. فمدينة جنين محاطة بالقواعد والمنشآت العسكرية وجدار الضم والتوسع. بينما نجد أن نابلس محاطة بعدد كبير من المستوطنات، وبالتالي هي عقدة حرجة في الوجود الاستيطاني في قلب الضفة الغربية.

تخلق هذه الحقيقة الجغرافية الكثيرَ من القلق لدى المؤسسة الأمنية الاحتلالية، فهي تتخوف من أثر هذه المجموعات على الوجود الاستيطاني في نابلس. فمن جهة لا يوجد في المجتمع الصهيوني الأوسع دعمٌ كبيرٌ لعمليات عسكرية في قلب الضفة الغربية تودي بحياة جنود لحماية مجموعات استيطانية يمينيّة، كما أن شكل ونوع عمليات عرين الاسود وكتيبة جنين لا يمتد داخل الخط الأخضر وإنما مبنيٌّ على حماية البؤرة المحرّرة نسبيًا من خلال الاشتباك مع قوات الجيش، وعمليات هجومية محدودة في محيط مدينة نابلس تستهدف التكتلات الاستيطانية والجيش نفسه.

انخرط العدو في الشهر الماضي بجهود مضنية للضغط على السلطة الفلسطينية وإجبارها على المزيد من الفاعلية في القتال ضد المجموعات الفلسطينية المسلحة كعرين الاسود.

تشير تصريحات أدلى بها مسؤولون عسكريون ومدنيون لدى العدو، وتقارير إخبارية حول وساطات بين العدو وقيادات السلطة واجتماعات مباشرة بين السلطة والاحتلال إلى حملة ضغوطات إسرائيلية منسقة على السلطة الفلسطينية لتصعيد انخراطها في احتواء سلاح المقاومة الوليدة ونزعه.

بدا أن السلطة الفلسطينية متردّدة بالتورط في هذا القتال واعتمدت إلى حد بعيد على استراتيجية سرية تتمثل في جمع المعلومات، والتشويه الاجتماعي لهذه الظواهر، والمفاوضات المباشرة مع مجموعات المقاومة.

يساهم الانخراط النشط للسلطة الفلسطينية في مكافحة المقاومة في تحويل الأمر إلى نزاع فلسطيني داخلي، ويخفف بعضًا من الضغوطات عن كاهل دولة الاحتلال. فمن خلال توظيف السلطة الفلسطينية، يصدّر العدو مشكلة أمنية ويحولها إلى اقتتال فلسطيني داخلي. تعتمد «إسرائيل» على خشية المجتمع الفلسطيني من الاقتتال الداخلي، وبهذا يفضل غياب الصراعات الأهلية حتى وإن كان على حساب وجود أو دعم نشأة مقاومة منظمة.

استجابت السلطة الفلسطينية باعتقال مصعب شتية، المقاتل في عرين الأسود. قاد هذا الاعتقال إلى اندلاع تمرد شامل ضد السلطة. حيث كانت مشاهد الاشتباكات بين أفراد الأمن التابعين للسلطة والمجتمع الفلسطيني في نابلس تذكيرًا بالاشتباكات التي يخوضها الفلسطيني مع الجيش الاحتلال.

يعتبر شتية جزءًا من تحالف واسع عابر للتنظيمات ما بين الأفراد المسلحين في المدينة القديمة والعاملين بشكل جمعي تحت لواء «عرين الأسود»، ولكنه أيضًا أحد عناصر حركة حماس.

لم تتوقّع السلطة تمرّدًا شاملًا بسبب اعتقال فرد مرتبط بحماس، فقد استغلت السلطة الأعوام الـ14 الماضية في دفع الانقسام الداخلي الفلسطيني إلى شكل من العداء، مستبدلة بذلك العداء مع دولة الاحتلال. لقد اعتقلت السلطة مئات العناصر من حماس بمقاومة لا تذكر من قبل المجتمع الفلسطيني. لذلك وجدت نفسها وحيدة في تسليط الضوء على ارتباط شتية بحماس، ووجدت جزءًا واسعًا من قاعدتها السياسية نفسها غير معني بمثل هذا الوسم. بالفعل، ما استطاعت هذه المجموعات تحقيقه هو توحيد الفصائل تحت لوائها، ولكنها أيضًا حالة تتجاوز جميع الفصائل من خلال إعلانها ولادة غير مرتبطة بفصيل دون آخر. وبهذا هي تشكل تحالفًا عابرًا للفصائل ومتجاوزًا لها في الوقت نفسها.

خاتمة

لا يأتي التحدي الحالي لقيادات السلطة الفلسطينية والعدو من جانب مجموعات إسلامية معارضة فحسب، أو من تجمعات النشطاء المرتبطين بالمجتمع المدني، بل بشكل متزايد يأتي من قاعدة اجتماعية من داخل إطار فلك السلطة الفلسطينية نفسه.

من دواعي السخرية أن ضغط الاحتلال على السلطة الفلسطينية من أجل المزيد من الانخراط في مواجهة هذه المجموعات ينجح على المدى القصير فقط. فهو يساهم في خلق حالة من الجدل حول المقاومة وجدواها، ولكنه بالوقت نفسه يفشل على المدى الطويل. ففي ظل تجاهل السلطة من قبل داعميها، وفي ظل تمركز القوة السياسية في يد نخب لا تمتلك شرعية سياسية أو حضورًا سياسيًا شعبيًا، وبينما يقاتل خلفاء الرئيس على الخلافة تشتد عمليات فك الارتباط عن السلطة الفلسطينية من قلب قاعدتها 

الضغط على السلطة للقيام بالمزيد من العمل لمكافحة المجموعات المقاومة، يشكل بدوره ضغطًا على بعض كوادر السلطة لتحديد مواقفهم السياسية، بل أحيانًا يدفع تلك الكوادر للالتحاق بالمقاومة، أو لإسنادها بشكل مباشر أو غير مباشر. ولذا ليس مستغربًا مثلًا أن نجد أخبارًا حول اعتقال عناصر من الأمن الفلسطيني في سجون أريحا لارتباطهم بالمقاومة، أو في كون والد الشهيد رعد خازم عنصرًا سابقًا في الأمن الفلسطيني، أو في قيام بعض الأفراد السابقين أو الحاليين في الأجهزة الأمنية بالاشتباك المسلح مع جيش الاحتلال أو في المبادرة ببعض العمليات في الآونة الأخيرة.

تحدث بعض عناصر الأمن لدى العدو حول اجتثاث جذور المقاومة قبل ست سنوات. واليوم نجد العدو يعلن عن عملية لـ«كسر أمواج» المقاومة. وهكذا بات العدو يقف على أعتاب نمو تمرد فلسطيني قد يفضي بمنتهى البساطة إلى انتفاضة، أو إلى ما دونها من أشكال التمرد الفاعل.الاجتماعية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

كاتب المقالة عبد الجواد عمر، نشرت المقالة على موقع الكترونيك انتفاضة
بدون رقابة / الكترونيك انتفاضة
Exit mobile version